آخر تحديث GMT 08:03:06
اليمن اليوم-

محارق للجثث... جثث للمحارق

اليمن اليوم-

محارق للجثث جثث للمحارق

بقلم / حازم صاغية

قبل بناء المحارق للجثث، بنى النظام السوريّ جثثاً للمحارق. سياسته المديدة هذه شاءت تحويل البشر الأحرار مشاريع جثث، أي بشراً يُحرمون حرّيّاتهم. يُحرمون كراماتهم ورفاههم وتعليمهم. لأيّ شيء يُرشَّح أمثال هؤلاء؟ للحرق فحسب، للحرق كرمى لاستمرار ذاك النظام، كرمى لـ «قضاياه».

بناء المحارق، في هذا المعنى، وقبل أن يكون عملاً صناعيّاً «مستورداً»، بدأ عملاً سياسيّاً «أصيلاً»: السوريّ الذي يصنعه الأسدان، الأوّل والثاني، تبقى حياته في يديهما، تستردّانها في أيّة لحظة تشاءان ذلك. تستردّانها بالطريقة التي تختارانها.

هنا، تعمل ديناميّتان: الأولى، ترفض السياسة بوصفها لعباً وخلافاً في وجهات النظر. تُحلّ، في المقابل، نظرة توحيش إلى السياسة: وطنيّ وخائن، شريف وعميل، قاتل ومقتول. الحيّز السياسيّ ينبغي أن يبقى ساخناً لا يبرد، معبّأً لا يسترخي. القداسة التي تُسبغ على «القضايا» أكثر ما ينقل السياسة من كونها لعباً إلى صيرورتها توحّشاً: هل يُعقَل أن نتحمّل وجهة النظر الأخرى وهناك إسرائيل؟ وهناك أميركا؟ وهناك المؤامرة التي تنوي اجتثاثنا؟ هل يُعقَل أن نؤنسن «العدوّ»؟ هل يُعقل أن نتنازل عمّا هو مقدّس؟

الردّ باجتثاث السياسة يفضي إلى تجثيث البشر: إنّهم «مقاومون» «شرفاء» «وطنيّون» «بواسل»، وقد ينقلبون في ظروف أخرى إلى «عملاء» «جواسيس» «خونة». لكنّهم، في مطلق الحالات، ليسوا أفراداً ذوي آراء ومواطنين ذوي حقوق. «المجد» لهم، لا الحرّيّة والخبز والتعليم، أو الموت لهم.

«داعش» أحد ثمار هذا النهج الذي اتّبعه نظاما الأسدين في سوريّة وصدّام في العراق. في عقارب الصافية، قرب السلميّة، كان آخر استعراضاته للسياسة بوصفها مذبحة.

الديناميّة الثانية تنجرّ عن الأولى وتكمّلها: «الشعب» الذي يصنعه الأسدان «واحد». لا تعدّد فيه ولا اختلاف ولا تمايز. البعد الآحاديّ والتصحّر السياسيّ وإرجاع البشر إلى خامهم الأوّل: هذه بداية المحرقة قبل إشعال النار. إنّه الجوهر القوميّ المزعوم، سلباً وإيجاباً.

لقد ذكّرنا مؤخّراً تعريب كتاب الباحث الفرنسيّ الراحل ميشيل سورا «سوريّة الدولة المتوحّشة» (الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر) بكلمات ووقائع تدلّ إلى النزعة هذه، نزعة إنقاص الإنسانيّ في الإنسان، والفرديّ في الفرد، وصولاً إلى الإنسان – الجثّة. حافظ الأسد لم يقتصد في التعبير مبكراً عن ذلك: مثلاً، في رغبته إعفاء طلاّب موالين من الامتحانات الدراسيّة واستخدامهم بما يفيد النظام، رأى أنّهم «يتصدّون لمؤامرات الإمبرياليّة والرجعيّة، وليس لديهم الوقت الكافي للدراسة». إذاً لا للمدرسة، نعم للقضيّة والمقدّس. شقيقه رفعت، وكان لا يزال الرجل الثاني في النظام، كتب في افتتاحيّة ليوميّة «تشرين»، في 1 تمّوز (يوليو) 1980، مبدياً استعداده للتضحية بمليون مواطن في سبيل إنقاذ الثورة.

بالمناسبة: ميشيل سورا، موثّق تلك الوقائع والأقوال، ومحلّل الطبيعة «المتوحّشة» لنظام الأسد، اختطفه في بيروت، أواسط 1985، الحلفاء اللبنانيّون الخلّص للنظامين السوريّ والإيرانيّ. مات بين أيديهم فاحتفلوا بتحوّله إلى جثّة. رموا الجثّة فلم تُكتشف إلاّ بعد سنوات.

لكنْ متى بدأ الانتقال من معادلة «الجثث للمحارق» إلى معادلة «المحارق للجثث»؟ فقط حين توقّفت قدرة النظام السوريّ على صنع الإنسان – الجثّة، حين ثار السوريّون رفضاً لتجثيثهم، بدأ الطور الصناعيّ. في البدء كان الكيماويّ. بعد ذاك أقيمت المحارق.

العقل الساخن في طوره الأوّل، والبارد في طوره الثاني، أنجز ما سمّاه هوركهايمر «تحويل المجتمع إلى طبيعة ثانية أقسى من الأولى». لكنّه إذ يمارس قسوته هذه فإنّه لا يفعل إلاّ الخير والضرورة. أليسوا جثثاً أولئك الذين يُحرقون؟ أوليس حرق الجثّة تكريماً للإنسانيّة، إن لم يكن تكريماً للجثّة نفسها أصلاً؟
إنّ الهراء «الوطنيّ والقوميّ والتقدّميّ» الذي كتبه وقاله مناصرو الأسد، سنة بعد سنة، لا يعلن إلاّ هذا: أنّ السوريّين، وقد أحيلوا جثثاً، يستحقّون موتهم. أنّ قتلهم قتل للشيطان الذين هم أنساله. يقيم فيهم. يقيم في هويّتهم. في ثقافتهم. في وجوههم. في ملابسهم. في تخلّفهم... إلى المحارق دُر!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محارق للجثث جثث للمحارق محارق للجثث جثث للمحارق



GMT 20:25 2021 الخميس ,01 تموز / يوليو

مرافَعةُ البطاركة أمام البابا

GMT 11:21 2021 الثلاثاء ,29 حزيران / يونيو

هل يبدأتصويب بوصلة المسيحيين في لقاء الفاتيكان؟

GMT 13:21 2021 السبت ,26 حزيران / يونيو

لبنان والمساعدات الاميركية للجيش

GMT 14:31 2021 الإثنين ,21 حزيران / يونيو

الحِيادُ هذا اللَقاحُ العجائبيُّ

GMT 23:33 2021 الخميس ,17 حزيران / يونيو

أخبار من اسرائيل - ١

GMT 16:22 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

أخبار عن بايدن وحلف الناتو والصين

GMT 17:50 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

المساعدات الخارجية البريطانية

GMT 07:38 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

أعداء المسلمين
اليمن اليوم-
اليمن اليوم-

إطلالة لافتة وجريئة لنسرين طافش في مهرجان كان السينمائي

القاهرة - اليمن اليوم

GMT 21:15 2020 السبت ,18 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الأيام الأولى من الشهر

GMT 16:26 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 17:02 2019 الأحد ,15 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد في كانون الأول 2019

GMT 22:16 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 12:33 2016 الثلاثاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

جنجاة تُبيّن القاتل الحقيقي لشقيقتها سعاد حسني

GMT 19:25 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كريم وليد يتوج ببرونزية بطولة العالم للكاراتيه

GMT 07:31 2018 الثلاثاء ,24 تموز / يوليو

نورا سيد تاريخٌ طويل في عالم تصميم الإكسسوارات

GMT 05:32 2018 الأحد ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

"ناسا" تحذر من اقتراب كويكبين عملاقين من الأرض

GMT 05:30 2018 الخميس ,06 أيلول / سبتمبر

أساليب مكياج دافئة لإطلالة مُميزة في فصل الخريف
 
alyementoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

alyementoday alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday alyementoday alyementoday
alyementoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon.
Beirut, Beirut Governorate, Lebanon